المجلس الثالث )الجزء الاول) – مجلس فصول السنة

2019-10-04 10:00:58

مجلس الفصول

كان للشيخ زايد مجلس في فصل الشتاء، ومجلس في فصل الصيف، وهذه المجالس يتنقل فيها رحمه الله لزيارة أبناء شعبه؛ ففي فصل الشتاء مثلا نراه يتنقل بين أبنائه في الإمارات، ويبقى فترة في كل إمارة ليلتقي بأبناء شعبه لمناقشة ومعرفة الثروات الحيوانية وخاصة الإبل حيث يكون هناك المهرجان الرئيسي لسباق الإبل في كل منطقة يزورها الشيخ زايد لإدخال السرور والبهجة على أبناء شعبه من خلال المجلس الشتوي؛ فنراه يضع الإشارات، وتلتف القبائل حوله في حفل بهيج.

وكان إلى جانب ذلك يهتم بالوقوف مع أبناء شعبه على معرفة الثروات الحيوانية، وتشجيعهم على الاهتمام بها ومواصلة العناية بها بصفتها موروثا حضاريا في البلد، وكذلك كان يقف معهم على معرفة الخيول، والمحافظة على هذا الموروث التراثي أيضا.

ويمكن أن نقول إن الشيخ زايد طيب الله ثراه هو الحاكم الوحيد الذي وصل اهتمامه بالثروات الحيوانية إلى أن جعل لكل مواطن بطاقة يسجل فيها عدد الماشية عنده لإحصائها، وضبط الثروة الحيوانية الإماراتية، وقد خصص لأصحاب هذه البطاقات تشجيعات وتحفيزات مالية كل ستة أشهر أو كل سنة كدعم من الحكومة، وهذا مما جعل الإمارات الآن والحمد لله لها اكتفاء ذاتي في مجال الثروة الحيوانية يفوق الخمسين بالمائة، وما هذا إلا من فضل الله ثم من اهتمام الشيخ زايد رحمه الله بمصالح أبنائه.

ومثلما اعتنى الشيخ زايد طيب الله ثراه بأبنائه وأعطاهم مزارع مرقمة كذلك أعطاهم أيضا ما يسمى " لعزب"، وكل "عزبة" مرقمة، وتمر بها لجنة سنويا للوقوف على عدد الماشية فيها، ويخصص لها راتب كدعم مالي لها...

وقد فهم بعض المقيمين العرب هذا المجال، وألفوه وأحبوه وتعلقوا به أكثر من غيرهم بسبب ارتباطهم بالطبيعة البدوية، وتشكل " لعزب" عند الإمارات في أذهانهم نموذجا لما هو موجود في بلدانهم...

وكان يتم في هذا المجلس تقديم الهدايا من أبناء المنطقة لإدخال السرور والبهجة على الشيخ زايد، وكذلك يقدم لهم هو هدايا ليشجعهم ويحفزهم على الاستمرار في أنشطتهم، ويتعرف على أمورهم عن قرب...

ومن القصص الواقعية التي تحضرني في هذا المجال أن الشيخ زايد رحمه الله كان في معسكره ومخيمه قريبا من أبنائه في منطقة مزيد قرب العين على مقربة من المكان الذي نسكن فيه، ولأن الأهالي يفرحون بمقدم والدهم ويسرون به قدم له والدي ناقة حلوبا أثناء وجوده قريبا منا، وجاء الوالد بالناقة أمام الشيخ زايد ليشرب من حليبها ليدخل بذلك السرور على أبنائه، وعندما أراد أن يحلبها لم يدر ضرعها لبنا؛ فقال له الشيخ زايد: لعلها خافت أو أصيبت بعين، وأمره بتغييبها قليلا عن المشهد ثم يعود بها، وعندما جاء بها بعد تغييبها حلبها الشيخ زايد وشرب من لبنها.. وهذا مظهر قوي من مظاهر بساطة هذا الرجل مع أبنائه حيث يتبادل معهم الهدايا، وينظر إلى ماشيتهم، وهم يحبون أن يدخلوا السرور عليه بأية طريقة؛ فهذا يأتي بالأغنام للذبح، وهذا يأتي بالإبل، وهو سخي معهم يتبادل معهم الهدايا الكبيرة ويغدق عليهم في العطاء. وهذه قصة واقعية رواها لي الوالد، وتاريخها ليس بعيدا منا؛ فهي في بداية الثمانينات.

أما المجلس الصيفي فيجتمع فيه مع أبنائه المهتمين بالزراعة وخاصة زراعة النخيل حيث يأتي الكل بالرطب في المجلس، ويتم التعرف على أنواع النخيل والمناطق التي تحتاج إلى الماء، والمناطق التي يتم التركيز فيها على زراعة النخيل بشكل أكبر، ويتعرف على الصعوبات والنواقص الموجودة عندهم في هذا المجال فيحقق لهم مطالبهم ونواقصهم.

وقد قام الشيخ زايد رحمه الله في هذا النطاق بتخصيص مزرعة لكل مواطن يعول أسرة تكون قريبة من منطقة سكنه تشجيعا له.. وكل هذا لسد خلة شعبه،وإدخال السرور على أبنائه. !!

وبذلك نرى أن الشيخ زايد طيب الله ثراه اهتم بالبيئة اهتماما كبيرا حتى ألفت عنه مؤلفات في هذا المجال والتي منها " زايد والبيئة "، وتاريخه مع البيئة والاهتمام بها ليس وليد اللحظة، ولا هو أمر متكلف يراد به برنامج سياسي أو تلميع صورته، بل هو يعود إلى تاريخ رحلته من القلعة في العين إلى قصر الحاكم في أبوظبي حيث اكتسب كثيرا من الخبرات لمواجهة التحدي الكبير الذي طالما واجهه، وهو المحافظة على التوازن بين الإنسان وبيئته الطبيعية، وكان يفقه ويدرك جيدا أهمية هذا التوازن، ويحرص عليه، ليس لأن في ذلك كسبا اجتماعيا له، وإنما لإدراكه أهمية التوازن من خلال الحياة التي عاشها..

وكان الشيخ زايد طيب الله ثراه يرى أنه إذا ذهبت المياه هدرا، وجفت الأرض، وغابت المواسم فالناس إلى موت محتوم. ولعل ما يميزه رحمه الله بين كثير من الذين يطرحون أنفسهم حماة للبيئة والحفاظ عليها بحسب ما يذكر الكاتب غريم ويلسون في كتابه: "زايد رجل بنى أمة" هو عمق إيمانه بما يشبه قدسية المحافظة على البيئة، وما رسخ قناعاته البيئية هو أن حمايتها والحفاظ عليها ليس مستحيلا، ولم يكن مؤمنا بحتمية التصحر ولا بديمومته. !!

وهناك كثير من القصص التي تحكي ارتباط الشيخ زايد بالطبيعة والشجر بشكل خاص؛ فقد كان يربطه تآلف وطيد بالشجر، وعندما غادر منزله في العين وانتقل إلى أبوظبي 1966 لم يقطعه هذا الانتقال عن جذوره، وكان جناحه الخاص في الدور الأول من قصر البحر يطل على حديقة من نافذة واسعة أشبه بالشرفة المفتوحة، وقد زرع الشيخ زايد في هذه الحديقة أنواعا من الأشجار المحببة إليه بما في ذلك النخيل وأشجار اللوز المثمرة، والمانجو والليمون، وهي الأشجار التي اعتاد الإماراتيون زراعتها حول بيوتهم منذ وقت طويل، وكان يشعر بالراحة عندما يرى هذه الأشجار.. بل أكثر من ذلك ذكرعنه موقف في كتاب" زايد رجل بنى أمة" يروي في هذا السياق حينما كان رحمه الله في سيارته يرافقه أحد ضيوف الدولة فرأى شجرة كبيرة وارفة لكنها مائلة حتى كادت أن تهوي؛ فأقف سيارته وسط دهشة الضيف واتصل عبر هاتف سيارته بالمسؤولين في القصر طالبا من يهتم بالشجرة ويعيد تثبيتها في التربة لضمان سلامتها واستمرارها. !!

وخلال جولة تفقدية لمشروعات تطوير العين، ومن بينها إنشاء أحد الطرق الجديدة لاحظ الشيخ زايد طيب الله ثراه أن واحدة من أقدم أشجار العين تقع في مسار الطريق، وعلم أنه من المقرر قطع الشجرة لكي يمر الطريق مكانها؛ فاستدعى القائمين على المشروع، وأمرهم بترك الشجرة مكانها، وجعل الطريق ينقسم إلى مسربين يمران عن جانبها ثم يعودان فيلتقيان بعد موقع الشجرة...! فقد كان شعاره دائما " اقطع طريقا ولا تقطع شجرة"..